بسم الله الرحمن الرحيم
لا أعرف رجلا خدم العلم والعلماء كالإمام جلال الدين السّيوطي – ت 911 هـ – ، صنف 725 مؤلفًا مُحْكَمًا في شتى علوم اللغة والشريعة والثقافة والفنون بخلاف ما مسحه أو أحرقه ، ومن أسباب ما بلغ به هذا المرتقى الصعب ثلاثة أمور : الحب لدرجة الهُّيوم أو التَّتَيُّم ، والإخلاص لدرجة الصفاء (نحسبه كذلك) ، والحفاظ على الوقت لدرجة اللِّحاظ (اغتنام كل لحظة) . روي أن القَسْطَلاني – صاحب المواهب اللَّدُنِّيَّة ت 923 هـ رحمه الله – سرق منه بعض المعلومات ولم ينسبها إليه فألف السيوطي ” الفارق بين المصنف والسارق “؛ فاعتذر القسطلاّني وخرج من القاهرة إلى الروضة مكان سكنى السيوطي (المنيل الآن) ؛ خرج حافيا ماشيا حاسر الرأس حتى وصل إلى منزل السيوطي وطرق الباب ، فقال السيوطي ولم يفتح له : ارجع فقد سامحتك . ولما تعرض لحديث النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –
«إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» . صحيح ، رواه أبو داود وغيره ، صَنَّفَ فيه أُرْجُوزَةً سَمَّاهَا (تُحْفَةُ الْمُهْتَدِينَ بِأَخْبَارِ الْمُجَدِّدِينَ) ، قال في أولها :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ الْمِنَّةِ … الْمَانِحِ الْفَضْلِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ
ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَلْتَمِسْ … عَلَى نَبِيٍّ دِينُهُ لَا يَنْدَرِسْ
لَقَدْ أَتَى فِي خَبَرٍ مُشْتَهِرْ … رَوَاهُ كُلُّ حَافِظٍ مُعْتَبِرْ
بِأَنَّهُ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةٍ … يَبْعَثُ رَبُّنَا لِهَذِي الْأُمَّةِ
مَنًّا عَلَيْهَا عَالِمًا يُجَدِّدُ … دِينَ الْهُدَى لِأَنَّهُ مُجْتَهِدُ
فَكَانَ عِنْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى عُمَرْ … خَلِيفَةُ الْعَدْلِ بِإِجْمَاعٍ وَقَرْ
وَالشَّافِعِيُّ كَانَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ … لِمَا لَهُ مِنَ الْعُلُومِ السَّامِيَةِ
وبن سُرَيْجٍ ثَالِثُ الْأَئِمَّةْ … وَالْأَشْعَرِيُّ عَدَّهُ مَنْ أَمَّهْ
والباقلاني رابع أو سهل أو … ع الاسفراني خَلَفٌ قَدْ حَكَوْا (1)
وَالْخَامِسُ الْحَبْرُ هُوَ الْغَزَالِي … وَعَدَّهُ مَا فِيهِ مِنْ جِدَالِ
حتى بلغ قرنه التاسع فقال تحدثًا بنعمة الله لا فخرًا ولا رياءً :
وَهَذِهِ تَاسِعَةُ الْمِئِينَ قَدْ أَتَتْ … وَلَا يُخْلَفُ مَا الْهَادِي وَعَدْ
وَقَدْ رَجَوْتُ أَنَّنِي الْمُجَدِّدُ … فِيهَا فَفَضْلُ اللَّهِ لَيْسَ يُجْحَدُ
يقول الإمام – رحمه الله – “شربت ماء زمزم لأكون في الفقه كسراج الدين البُلْقِينيّ، وفي الحديث كالحافظ ابن حجر العسقلاني” فنالهما وزيادة ، وماء زمزم لما شُرِبَ له كما في الحديث الصحيح . ولم يكن إمامنا السيوطي – رحمه الله – طالب دنيا أو سلطان ؛ فقد اعتزل الإفتاء والتدريس ، وهو ابن أربعين سنة ، وكان في أوج شهرته ، وصنف في ذلك “التنفيس في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس”. وكان بعض الأمراء يأتون لزيارته، ويقدمون له الأموال والهدايا النفيسة، فيردها ولا يقبل من أحد شيئا، ورفض مرات عديدة دعوة السلطان لمقابلته، وألف في ذلك كتابًا أسماه “ما وراء الأساطين في عدم التردد على السلاطين”.
ولما أنكر عليه بعض الأقران – ومعلوم عن الأقران الحسد والبغضاء إلا من رحم الله – كتب رسالة “التحدث بنعمة الله” . رحم الله إمامنا السيوطي وأسكنه فسيح جناته ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) للمزيد انظر سلسلة اخترت لكم 35 ، في الرابط : http://zdnyilma.blogspot.co.uk/2015/03/35.html
لا تعليق