س 65 : كيف نقضي الفرائض الفوائت ؟
ج 65 : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد …
فقد اختلف العلماء في وجوب قضاء الفوائت لمن تركها متعمدا إلى قولين مشهورين :
الأول : وجوب قضاء الفوائت ، سواء كانت قليلة أو كثيرة (وهو قول جمهور الفقهاء ، وبه نأخذ)
واستدلوا بقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – : «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» (1) وإذا كان هذا في المعذور ، فإن وجوبه في حق العامد أولى ، ومن باب التنبيه من الأدنى على الأعلى .
ولعموم قوله – صلى الله عليه وآله وسلم – “دَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى” . (2)
وأوجب المالكية والحنابلة قضاء الفرائض الفوائت على الفور ، واشترط أحمد عدم وقوع الضرر في البدن أو المال ، وذهب الحنفية إلى جواز التأخير ، وقال الشافعية إن كان الفوات بعذر فالقضاء على التراخي ، وإن كان بغير عذر فوجهان أصحهما القضاء على الفور لأنها فاتت بغير عذر ويجب جبر التفريط فورًا . (3)
الثاني : عدم وجوب قضاء الفوائت الكثيرة (وهو قول الظاهرية والإمام ابن تيمية)
واستمسكوا بدليل الخطاب وظاهر النص ولأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط ، فمن لم ينس أو لم ينم عن صلاة فلا قضاء عليه ، واستدل ابن تيمية بخروج تارك الصلاة بالكلية عن دائرة الإسلام ، لقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – : «العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» . (4)
ومعلوم أن الكافر لا يقضي الصلاة ولا الصيام ولا غيرهما من الأركان(5) ، والإسلام يَجُبُّ ما قبله ، فيجب عليه أن يكثر من التطوع ليجبر هذا التقصير .
ثم اختلفوا في كيفية القضاء (من حيث الترتيب) :
فذهب المالكية إلى وجوب الترتيب بين الفوائت إن قلت (أقل من يوم وليلة = 4 صلوات أو أقل) .
فمثلا من نام عن أربع صلوات أو أقل أو نسيها أو تعمد تركها يلزمه القضاء بالترتيب (الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب قبل أن يصلي العشاء) فإن خالف الترتيب فالصلاة صحيحة مع الحرمة (لأن وجوب الترتيب غير شرطي) ، هذا بخلاف ما إذا ترك أولى صلاتين مشتركتين في الوقت (الظهر والعصر – والمغرب والعشاء) فمثلا لو ترك الظهر وأراد أن يصلي العصر فإن الترتيب يلزمه ولو خرج وقت العصر (يصلي الظهر أولا قبل العصر) ومن ثَمَّ قالوا تقديم العصر على الظهر باطل ، وتقديم العشاء على المغرب باطل ، وأما الباقي كتقديم الظهر على الصبح صحيح مع الحرمة ، ويستحب له بعد صلاة الظهر والصبح أن يعيد الظهر مراعاةً للترتيب إن كان في الوقت متسع .
ولو تذكر الفائتة أثناء صلاة الحاضرة يقطع الصلاة ، ثم يقضي الفريضة الفائتة أولا ثم يصلي الحاضرة بعدها .
وذهب الحنفية إلى وجوب الترتيب بين الفوائت إن قلت (يوم وليلة فأقل = 5 صلوات أو أقل) .
وقالوا يسقط الترتيب بأحد ثلاثة :
1-إذا صارت الفوائت ستا ، وليس الوتر معدودا فيها .
2-ضيق الوقت عن أداء الحاضرة .
3-نسيان الفائتة وقت أداء الحاضرة ؛ فلو تذكر الفائتة أثناء صلاة الحاضرة يحول نيته إلى صلاة النافلة ويتم الصلاة ثم يقضي الفريضة الفائتة أولا ثم يصلي الحاضرة بعدها .
وذهب الحنابلة إلى وجوب الترتيب مطلقًا .
واشترطوا الذِكر إلا إن خشي فوات وقت الحاضرة ؛ فمثلا يجب ترتيب الظهر الحاضر مع الفجر الفائت ، فيصلي الفجر أولا ثم الظهر إلا إن خشي فوات وقت الظهر .
ولو تذكر الفائتة أثناء صلاة الحاضرة يتمادى في الصلاة ولا يقطع إن كان في الوقت متسع ولا يحتسبها ، ثم يقضي الفريضة الفائتة أولا ثم يصلي الحاضرة بعدها .
وذهب الشافعية إلى الندب مطلقًا ، وقالوا يسن الترتيب بين الحاضرتين بشرطين : الأول أن لا يخشى فوات الحاضرة الثانية ، ويتحقق فواتها بعدم إدراك ركعة منها ، والثاني أن يكون متذكرًا الفوائت قبل الشروع في الحاضرة ، فإن تذكر بعدها يكمل صلاته ولا يقطعها ، وترتيب قضاء الحاضرتين المجموعتين جمع تقديم واجب ، وترتيب قضاء المجموعتين جمع تأخير سنة . (6)
وأما عن كيفية القضاء إن زادت الصلوات عن يوم وليلة :
فقد قال الجمهور بقضاء الصلوات مع الحاضرة (قبلها أو بعدها سواء) إن كان يستطيع ، مثلا فاتته صلاة أربعة أيام : يقضي مع الفجر أربع صلوات فجر ، ويقضي مع الظهر أربع صلوات ظهر ، وهكذا …
فإن لم يستطع يقضي مع كل صلاة صلاةً ، فيصلي الفجر الفريضة ويصلي قبله أو بعده فجرا ، والظهر وقبله أو بعده ظهرا …وهكذا
حتى يستوفي ما فاته من سنين أو يغلب على ظنه أنه قد استوفى .
فإن كان عالمًا بأول وقت فاته قضى مثله ، وإن كان غير عالم بدأ بالظهر ؛ لأنها أول صلاة صلى بها جبريل بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – حين بين له الصلوات الخمس . (7)
وأما اختلاف النوايا فقد تباينت أقوال فقهائنا رحمهم الله :
فذهب الشافعية والحنابلة إلى صحة صلاة المأموم المتنفل خلف الإمام المفترض ، وصحة صلاة المفترض خلف المتنفل ، وصحة صلاة المفترض خلف المفترض بفريضة أخرى توافقها في العدد كصلاة الظهر خلف العصر ، كذا صححوا صلاة فريضة خلف فريضة أخرى أقصر منها ، مثل صلاة العصر خلف المغرب ، فإن أتم الإمام المغرب قام المأموم وقضى الركعة الرابعة الفائتة من العصر، كذا صححوا صلاة فريضة خلف فريضة أطولَ منها ، مثل المغرب خلف العشاء ، يتم معه ثلاث ركعات ويتشهد ويسلم مفارقاً له أو يرتفع الإمام للرابعة ويجلس المأموم لتشهده الأخير ثم ينتظر الإمام حتى يتم الركعة الرابعة ويتشهد ويسلم فيسلم معه .
وذهب الحنفية ومالك في رواية إلى عدم جواز صلاة فريضة خلف نافلة ، ولا فريضة خلف فريضة أخرى ، ثم أجازوا النافلة خلف الفريضة ؛ لأن الاقتداء بالأفعال لا بالنية ، وتأولوا حديث معاذ “كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ” (8) على أنه كان يصلي مع النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – النافلة ثم يصلي بقومه الفريضة ، وزعم بعضهم أنه منسوخ .
وذهب مالك في الرواية الأخرى إلى عدم جواز اختلاف النوايا مطلقًا ؛ لقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – : “إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ” . (9)
وأما القضاء في السفر أو الحضر :
فذهب المالكية والحنفية إلى أنها تقضى كما كانت وقت الفوات إلا أن فائتة الحضر تقضى كما هي اتفاقًا ؛ فمثلا من فاته الظهر في الحضر أربع ركعات يقضيه في الحضر أو السفر أربعا ، ومن فاته الظهر في السفر ركعتين يقضيه في الحضر أو السفر ركعتين .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب قضاء الفائتة تامة سواء كانت فائتة في سفر أم في حضر . (10)
وأما كيفية القضاء سرًّا أو جهرًا :
فذهب المالكية والحنفية إلى أنها تقضى كما كانت وقت الفوات ؛ فالسرية تقضى سرا ، والجهرية تقضى جهرا سواء كنت تصلي أيًّا من السرية أو الجهرية ليلا أم نهارًا .
وذهب الشافعية إلى الاعتبار بوقت القضاء ، فإن كنت تقضي السرية أو الجهرية ليلا تجهر ، وإن كنت تقضي السرية أو الجهرية نهارًا تُسِرُّ .
وذهب الحنابلة إلى الجهر في حالة واحدة فقط ، وهي إذا كانت الفائتة جهرية وكان القضاء ليلا وكان المصلي إمامًا ، وذهبوا إلى الإسرار في باقي الحالات سواء كنت إماما أم مأمومًا . (11)
وأما القضاء في أوقات النهي الخمسة المشهورة :
فقد ذهب الحنابلة إلى أن الفرائض لا يعتريها النهي الثابت في الأحاديث ، وإنما هو خاص بالنوافل فقط ، ووافقهم المالكية بشرط التأكد من فوات الصلاة يقينًا وإن كان يشك في فوات الفريضة قضاها في غير أوقات النهي ، ووافق الشافعية الحنابلة واشترطوا عدم قصد قضاء الفوائت فيها بخصوصها ، كما استثنوا خطبة الجمعة من لدن جلوس الخطيب وحتى انتهاء صلاة الجمعة ، وأما الحنفية فقد منعوا قضاء الفوائت في ثلاثة أوقات: وقت طلوع الشمس، ووقت الزوال، ووقت الغروب ، وما عدا ذلك يجوز فيه القضاء ولو بعد العصر. (12) هذا وبالله التوفيق ، والله أعلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم (684) (1/ 477) والبخاري (597) (1/ 122) .
(2) رواه مسلم (1148) (2/ 804) .
(3) فتاوى الشبكة الإسلامية (208486) .
(4) صحيح ، رواه الترمذي (2621) (5/ 13) والنسائي (463) (1/ 231) وغيرهما .
(5) والقول بكفر تارك الصلاة كسلا هو رواية عن أحمد (وحد الترك لديه صلاة أو ثلاث ، وقال الجمهور بفسقه وعدم كفره ، وقالوا إن المقصود في الحديث الكفر الأصغر (كفر النعمة لا المُنعِم) وذهب الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) إلى أنه يستتاب ثلاثة أيام كالمرتد ، فإن تاب وإلا قتل . ويقتل عند المالكية والشافعية حدا لا كفراً ، وذهب الحنابلة إلى قتله كفرًا ، وذهب الحنفية إلى أنه يحبس حتى يصلي . فتاوى الشبكة الإسلامية (130853) ، وانظر شرح أستاذنا العلامة د/أحمد طه الريان على مختصر الأخضري .
(6) الفقه على المذاهب الأربعة للعلامة الجزيري – رحمه الله – (1/ 447 : 449) .
(7) فتاوى الشبكة الإسلامية (141086) ، (152031) ، (512) ، (96811) ، (20414) .
(8) رواه البخاري (701) (1/ 141) ومسلم (465) (1/ 339) .
(9) رواه البخاري (688) (1/ 139) ومسلم (411) (1/ 308) .
(10) فتاوى الشبكة الإسلامية (179453) ، (10038) .
(11) فتاوى دار الإفتاء المصرية ، فتوى فضيلة الشيخ عطيه صقر – رحمه الله – (9/ 124) ، والفقه على المذاهب الأربعة للعلامة الجزيري – رحمه الله – (1/ 447) .
(12) المغني (2/515) عن موقع الإسلام سؤال وجواب (20013) ، والفقه على المذاهب الأربعة للعلامة الجزيري – رحمه الله – (1/ 450) ، (1/ 335 : 337) .
لا تعليق