التذكرة في القراءات

بسم الله الرحمن الرحيم
كنت أصلي بالناس إماما في مسجد بالإسكندرية ، وفي يوم جمعة والأصل أن الجمعة عطلة ، يعني كان ممكنا ألا أذهب ، وقبل أذان وإقامة المغرب رأيت رجلا طُوالًا في بذلة صيفية ، يسألني “ماذا تعمل ؟” قلت : “إمام مسجد ومدرس بمعهد الدعوة” ، قال : “هل ستصلي بنا ؟” قلت : نعم” ، قال : “طيب صلِّ” ، وبعد الصلاة أعطيت كلمةً بعنوان “فضل الصلاة على النبي – صلى الله عليه وآله وسلم” ، فقلت “إن الصلاة من الله رحمه ، ومن الملائكة استغفار ، ومن المؤمنين دعاء” فقاطعني قائلا : “طيب ، وماذا عن قول الله – تعالى – ((أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)) (البقرة 157) فقلت : “هذا من باب عطف الخاص على العام” ، فأراد أن يرد علي ، فقلت له “إن شاء الله أكمل الدرس ، ثم نتحدث بإذن الله” ، قال : “طيب” .
وبعد المجلس سلمت عليه ، وقلت له “نتعرف أولا على حضرتك” ، قال “د.سعيد صالح زعيمة” وفي أقل من ثانية ذكَّرَني الله “أنني قبل سنوات ، وقبل توجهي لعلم القراءات كانت مكتبة ببلدنا تجري تصفية للكتب ، وتبيعها بثمن زهيد ، فرأيت فيها كتاب “التذكرة في القراءات الثمان” للشيخ أبي الحسن طاهر بن غلبون – ت 399 هـ – ، تحقيق د.سعيد صالح زعيمة :

التذكرة في القراءات

فقلت ما المانع أن أشتريه “فاشتريت الجزأين المتوافرين ، ثم عرضت أحدهما على شيخنا العلامة محمد محمود عبيد – حفظه الله – في القاهرة أثناء قراءتي عليه بحفص أو ورش (وكنت مقيما بالقاهرة – مدينة السلام وقتها) ، وذات يوم رأيت برنامجًا تلفزيا في قناة بداية ، والضيف هو د.سعيد صالح زعيمة ، الذي قدم نفسه “إجازة بالقراءات العشر الصغرى والكبرى ، وطبيب جراح” ، وكان الحديث عن الحجامة” .
فقلت “شيخنا وأستاذنا” ، وحينئذ تبسم شيخنا ، وكما قال أبو الطيب :
إِذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً … فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ
فقال لي “هل أنت مجاز بالقراءة” ، فقلت “نعم ، الحمد لله ، مجاز بالقراءات العشر الصغرى” ، قال : “تعالَ معي ، أنا أعالج المرضى هنا في أيام كذا وكذا” فذهبت معه ، وتبادلنا أطراف الحديث ، فأعجبت بسَعة علمه وشغفه بالعلم وحرصه على نقله وتسهيله للطلاب ، فقال “سأعطيك القراءات العشر الكبرى” . وقد كان ، وبعد ذلك أخبرني الشيخ أنه لم يرد أن يصلي في ذلك المسجد فساق القدر قدميْه إلى هناك ليكون سببا في ذلك الخير ؛ فالحمد لله رب العالمين .

ولد شيخنا الدكتور سعيد صالح مصطفى زعيمة سنة 1958 م ، وهو عالم محقق متقن من علماء القراءات بالإسكندرية ، طبيب أزهري ، تخرج من معهد القراءات وكلية علوم القرآن الكريم ، وقرأ القرآن الكريم كاملا بالقراءات العشر الصغرى والكبرى على العلامة الشيخ محمد عبد الحميد عبد الله خليل صاحب أعلى إسناد في العالم في العشر الكبرى ، وقرأ الدكتور سعيد على مشايخ كثيرين ذكر أنهم حوالي أربعون شيخا وشيخا وأجازوه ، له كتب كثيرة جدا في علم القراءات وغيرها ، وكان سبب معرفتي به كتاب التذكرة في القراءات الثمان للعلامة ابن غلبون رحمه الله بتحقيق وتعليق الدكتور سعيد صالح زعيمة حفظه الله . له جهود كبيرة جدا في نشر علم القراءات مع سعة علمه في النحو والصرف والتفسير وعلوم الشريعة ، يبذل العلم لطالبيه بلا تردد حتى أنه يسافر ويتنقل بين المحافظات ليبلغ دعوة ربه ، يخاطب الناس في كل المستويات وفي كل الميادين بأسلوب سهل للغاية ، من رآه أول مرة هابه ، ومن خالطه أحبه ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله في أدبه وسعة علمه وحلمه وتواضعه وأخلاقه ، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا .
كتب شيخنا – حفظه الله – عددا من الكتب والبحوث في القراءات وغيرها ، منها شرح الشاطبية والدرة والطيبة ، ونيل الخيرات في جمع القراءات ، وإيضاح مبهمات في علم القراءات ، ومائة قصة ، والسعادة الزوجية ، كما حقق بعض كتب القراءات كالتذكرة في القراءات الثمان لابن غلبون ، الذي كان سببا لمعرفتي به .
ولشيخنا المبارك أسلوب متميز في عرض العلم وتسهيله ، ولبراعته وتمكنه من علم القراءات قام باستدراك على متون التجويد والقراءات ، ليس للطعن فيها ،وإنما لتوضيح مبهم أو لإزالة إشكال أو منع إيهام ؛ مراعاة للجاهل الذي قد تلتبس عليه الالفاظ ، وكثيرا ما يقول : “نحن نعرف أقدرانا ونعرف من هو الإمام ابن الجزري ، ومن هو الإمام الشاطبي ، ومن هو الشيخ الجمزوري ، هم أصحاب السفينة ، ونحن اصحاب الخرق ، وقد قال الإمام الشاطبي رحمه الله :
وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَادرِكْهُ بِفَضْلَةٍ …. مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ

ومما رأيته من الشيخ حفظه الله أنه يريد أن يكون المتن شارحا لنفسه قدر المستطاع مع عدم الاستغناء عن الشروح ، وأن يعرب للطالب ما استعجم في الطيبة بأسلوب سهل ، ودائما ما يحيل الطالب في البداية إلى شرح ابن الناظم ، وفي المستوى الأعلى من ذلك يحيل على شرح الهادي للشيخ محيسن رحمه الله ، وفي بعض المستويات يحيل إلى شرح النويري .
سافر شيخنا في سبيل نشر العلم إلى جميع أنحاء مصر تقريبا ، كما قام بعدد من السفريات الدعوية والعلمية إلى ليبيا والمغرب وموريتانيا وتونس وسوريا والسعودية ، وهو على استعداد للسفر إلى أقصى بلدان العالم ؛ ليبلغ دعوة الله – سبحانه وتعالى – ويُسَهِّلَ العِلمَ على طلابه .
ولشيخنا تسجيلات علمية صوتية وأخرى مرئية ، ومنها لقاءات في بعض القنوات الفضائية في مصر وتونس .
وأما طلاب الشيخ فمن جميع البلدان ، وهم أكثر من أن يحصيهم ديوان ، وأما منهجه في أخذ المال لحبس الوقت للتعليم أو الإقراء فهو كما قال لي “لا أطلب ولا أرفض” ، وأذكر أنه أمرني بالقراءة عليه – لما التقيت به قدرا في الإسكندرية – فقلت له “للأسف ليس لدي مال” ، قال : “يابني إن أردت مال أعطك” . وكان هذا سببا لتعاوننا في إنشاء جامعة الدرة المضية ، ثم مقرأة الدرة المضية التي يشرف عليها فضيلته .
استبيان مقرأة الشيخ في الرابط التالي :
http://www.4shared.com/office/7UWnDh9mba/___online.html
ومنهجه تدبر القرآن ، وليس القراءة المجردة ، مع إتقانه لعلوم القرآن والتجويد ، وبالتالي من يقرأ معه فلا بد من أن يصبر ، وقد قرأت عليه خلال ثلاثة أعوام تقريبا ثلاث ختمات بمضمن العشر الصغرى والكبرى ، وقد شهد على إجازتي من شيخنا عدد من الشيوخ الكبار ، وقد شهدوا له بالعلم ؛ لقوة حافظته وتمكنه من هذا العلم ؛ لأنه لم يدخل الموضوع للشهرة ولا للمال ، وإنما محبةً ، وما زلت أفيد من علم الشيخ ، وأنا منه بمثابة الابن والأخ والطالب ، لم أقرأ فقط وإنما قرأت وسمعت وصححت لبعض طلابه ، وسافرت معه وسافر معي ، وقضي في بيتي ليالي عديدة طويلة نقرأ ونتدارس ونفيد ، وكذا ذهبت إليه ، ولم أقرأ معه على الإنترنت حينئذ إلا مرة أو مرتين فقال لي تعالى يا ابني وخذ بركة التلقي والمشافهة ، وأذكر لمن يقرأ معي بالعشر الكبرى من باب الأمانة أن الشيخ كان ينام أحيانا ، وهذا أمر يجبره السماع والتلقي بمعناه العام ، وهو أوسع من قولهم قرأت أو سمعت ، بل قراءة وسماع ومصاحبة ومتابعة وملازمة ، وسأذكر مثالا للتوضيح :
ذكر الإمام ابن الجزري رحمه الله في كتابه النشر طريقة تلقي الشيوخ للقرآن الكريم بسمعت وحدثني وقرأت على وتلقّيت ، وهذا مثال مشهور عندما نقول إن الإمام الرواي حفصًا قرأ (ضعف) المواضع الثلاثة في آخر سورة الروم بالوجهين فتح الضاد وضمها ، هل هذا يعني أنه تحملها عن الإمام عاصم ؟!
كَلّا ؛ لأن الإمام عاصما القارئ لم يقرأها بالضم أصلا ، قال الإمام ابن الجزري – رحمه الله – في طيبته ، فرش سورة الأنفال :
663 – ضُعْفًا فَحَرِّكْ لاَ تُنَوِّنْ مُدَّ ثُـبْ … وَالضَّمَّ فافْتَحْ نَـلْ فَتىً وَالرُّومُ صِـبْ
664 – عَـنْ خُلْفِ فَـوْزٍ ……
وقال في النشر :
(((وَاخْتَلَفُوا) فِي: مِنْ ضَعْفٍ، وَمِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ، وَضِعْفًا فَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ حَفْصٍ فَرَوَى عَنْهُ عُبَيْدٌ وَعَمْرٌو أَنَّهُ اخْتَارَ فِيهَا الضَّمَّ خِلَافًا لِعَاصِمٍ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا خَالَفْتُ عَاصِمًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَرْفِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ جَمِيعًا.)) (النشر في القراءات العشر 2/345) .
وقد قال العلماء : لا ينبغي للمقرئ أن يقرأ الناس إلا بما قرأ أو سمع ، حتى وإن فات الطالب بعض الكلمات الخلافية عن غير قصد وغفل الشيخ وهو بشر ، فهذا أمر مجبور مع المتقنين ، والحمد لله رب العالمين .
ومن يذهب للشيخ ليتعلم منه ينبغي أن يكون جاهزا بمعنى أنه قرأ على شيوخ قبله وتعلم وفهم قدرا كافيا من شروح المتون حتى يفهم كلامه واستدراكاته على متون الإمام الشاطبي والإمام ابن الجزري والشيخ الجمزوري ، ولأنه يتكلم بالعامية وربما لا يقدم ديباجة بفضل هؤلاء العلماء ؛ فيظن السامع أنه يقلل من شأنهم ويطعن فيهم ، وكالعادة يتعرض العلماء للانتقادات والطعون بحق وبغير حق ، وكان هذا رد شيخنا على من طعنوا في علمه ؛ لاستدراكه على العلماء وتساهله في إجازة بعض الطلاب ، وقد وكلني بالكتابة نيابةً عنه :
قال شيخنا الكبير الدكتور سعيد صالح زعيمة حفظه الله ونفع به : أتبرأ مما نسب إلى من الطعن في الإمام الشاطبي والإمام ابن الجزري وغيرهما ، هم ساداتنا تعلمنا منهم ، وما زلنا نتعلم ، هم أصحاب السفينة ونحن أصحاب الخرق ، ننقد ونصحح ، ولا ننقض ونفضح . وأما التساهل في الإجازات فالعيب في الطالب الذي أراد أن يأخذ الإجازة دون إكمال الختمة ، وإن كنت شجعت بعض الناس وأجزتهم دون إتقان فهذه إجازة شرفية لا يعتد بها . وبالله التوفيق .
والشيخ يرهق نفسه كثيرا في السفر وقلة النوم ليعلم الناس ،وأقسم بالله لقد رأيت منه العجب ، فمثلا سافرنا من قبل من الإسكندرية إلى الإسماعيلية إلى الشرقية ، وفي كل مكان يتكلم الشيخ وينشر العلم الصحيح مع من يعرف ومن لم يعرف ، وينبه أئمة المساجد على الأخطاء ، يتكلم من حفظه كأنه مصطحب مكتبة يعصر العلوم منها عصرا ، ويقدمها في كوب مغلف بالأدب ، وربما يقسو أحيانا ، حتى تعبنا – ونحن شباب – وقلنا نبيت لننام ونستريح فرفض ، وقال لم آت لأنام ، ثم انطلق إلى القاهرة ليلا وركبنا معه ، حتى نزلنا بنها تقريبا واستمر هو للقاهرة لأن عنده موعد في الصباح، وقد قال لي وقد كان ينام أحيانا أثناء التلاوة عليه لكثرة الإرهاق، أنا أريد أن أموت على هذه الحالة ، وأنا طبيب أصلا ولم أدخل هذا الأمر إلا محبةً في نشر الخير .
جزاه الله شيخنا خيرا الجزاء على ما قدم ويقدم للإسلام والمسلمين ، وبارك في علمه وعمله وعمره ، وغفر الله لنا وله ، وأحسن ختامنا وختامه على التوحيد والإخلاص ، وجعلنا وإياه وإياكم رفقاء حبيبه – صلى الله عليه وآله وسلم – في جنات النعيم . والحمد لله رب العالمين ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *